يتشابه التحكيم مع غيره من الوسائل البديلة لحل المنازعات بين أطراف النزاع والتي تتفق معه في إحالة النزاع إلى شخص من الغير لأداء مهمة فض النزاع. وبالتالي يستلزم التمييز بينه وبين هذه الأنظمة لإبراز ذاتيته واستقلاله عنهم، ومن أهم الأنظمة القانونية التي قد تتشابه مع التحكيم من هذه الناحية: الصلح، والتوفيق والخبرة والوكالة، وسنتناول هذه الأنظمة من خلال الفروع التالية:
أولاً: التحكيم والصلح:
يرتكز التحكيم والصلح على إرادة الأطراف حل النزاع بعيدا عن القضاء وإجراءاته لكنَّ هناك فروقا جوهرية تجعل كل منهما يتباعد عن الآخر. فالصلح عرفته مجلة الأحكام العدلية في المادة (1513) بأنه"عقد يرفع النزاع بالتراضي وينعقد بالإيجاب والقبول .وله عنصران أساسيان لا قيام له دون اجتماعهما، وهما:
1 – وجود نزاع قائم أو محتمل.
2 – "النزول المتبادل من كل من الطرفين عن جزء من ادعاءاته"[1].
ويضيف جانب من الفقه إلى هذين العنصرين عنصراً ثالثاً يتعلق باتجاه النية إلى حسم هذا النزاع[2]. وعلى ذلك فهو أداة للتسوية الودية لحل النزاع حلا رضائيا يقوم به الخصوم أنفسهم. "ويتفق الصلح مع التحكيم في أن كلا منهما يستند إلى الإرادات الخاصة، كما يتفقان في أن كلا منهما يؤدي إلى حسم النزاع فكل من الصلح والتحكيم يستندان على عقد يبرمه أطراف النزاع، فأساس كل منهما تصرف قانوني، فعقد الصلح هو أساس العمل التصالحي وعقد التحكيم هو أساس حكم المحكم، ولذلك فإن كلا من العمل التصالحي وحكم المحكم يتأثر بما يصيب العقد من عيوب، فبطلان عقد الصلح يؤدي إلى بطلان العمل التصالحي، وبطلان اتفاق التحكيم يؤدي إلى بطلان حكم المحكم وانعدامه"[3]. كما أن وجود كل من التحكيم والصلح يعني عدم جواز عرض النزاع على القضاء والدفع بحجية الشيء المقضي به، فما فصل فيه بالتحكيم أو اتفق عليه صلحاً يصلح لإثارة الدفع بحجية الشيء المحكوم به عند إثارة ذات النزاع أمام القضاء. ويختلف الصلح عن التحكيم في أن الصلح يتنازل فيه الطرفان عن كل أو جزء من الحق أما في التحكيم فلا يقتضي بالضرورة بذلك. وفي التحكيم يكون احترام تام لمبادئ العقد فالعقد شريعة المتعاقدين ويكون هذا الاحترام مفروضا ليس على المتعاقدين فحسب ولكن يمتد حتى للقضاء في حين أن الصلح أكثر مرونة لأنه يعتمد على نظم مبادئ العدالة[4]. كما أن حكم التحكيم يقبل الطعن فيه بطرق الطعن المقررة قانوناً، ويكون قابلاً للتنفيذ مباشرة بعد وضع الصيغة التنفيذية عليه، بينما عقد الصلح لا يقبل الطعن فيه بطرق الطعن المقررة بالنسبة للأحكام، وإنما يكون قابلاً للبطلان أو الفسخ بحسب قواعد القانون المدني، ويكون غير قابل للتنفيذ في ذاته إلا إذا ورد في عقد رسمي أقر به الخصوم أمام المحكمة وأثبت ذلك الإقرار في محضر الجلسة[5] .
ثانياً: التحكيم والتوفيق:
عرف التوفيق بأنه النظام الذي يقوم على: "تدخل شخص أو جهة في نزاع قائم بين طرفين للتقريب بينهما، وتسوية النزاع الذي ثار فيما بينهما، وذلك عن طريق حل يستند إلى إرادة الطرفين، بحيث لا يمكن تنفيذ الحل الذي اقترحه الشخص الذي تولى عملية التوفيق إلا باتفاق الطرفين"[6]. ويمكن القول بأنه طريق ودي لفض المنازعة الناشئة، عن طريق مـوفق، أو عن طـريق لجنة موفقين من الأشخاص أو المنظمات؛ ويتم التشاور والاجتماع بينهم للوصول إلى حل ينهي الخصومة لكنه غير ملزم، ويحرر في محضر رسمي موقع الأطراف ومن الموفق. فهو عبارة عن عملية مناقشة عقلية تنسيقية للخلافات القائمة بين طرفي النزاع تحت قيادة الموفق. ويتشابه مع التحكيم في أنهما وسيلتان لتسوية منازعات بدلاً من القضاء كما أن الهدف من التوفيق والتحكيم هو حل النزاع. والمعيار المعتبر للتفرقة بين التحكيم والتوفيق هو القوة الملزمة لقرار الغير (المحكم أو الموفق)؛ ففي التوفيق فإن ما ينتهي إليه الموفق لا يعدو أن يكون مجرد اقتراح غير ملزم للأطراف، فالموفق ليس له سلطة الفصل في النزاع بحكم ملزم، ولكنه يعرض اقتراحات على الطرفين للتوفيق بين وجهة نظر كل منهما، وهذا دون فرض أي تسوية عليهما، فلهم الحرية في الأخذ به من عدمه. أما في التحكيم فإن المحكم يصدر قراراً يفرض على الأطراف فلا يكون لهم الحق في مناقشته أو تعديله. وبذلك "يحوز حكم التحكيم بمجرد صدوره على حجية الشيء المقضي به، فهو عمل قضائي، بينما ما ينتهي إليه الموفق لا يحوز هذه الحجية وتنتهي مهمة الموفق في حال نجاحها بإبرام الطرفين تسوية أو صلح بدون صدور أي قرار أو حكم من الموفق. كما أن مدة التحكيم تحدد عادة بواسطة الأطراف، وينبغي في هذه الحالة أن تتضمن وثيقة التحكيم هذا الميعاد، بينما في التوفيق وعلى الأخص التوفيق القضائي فإن هذه المدة تتحدد بواسطة القاضي"[7]. وقد يتفق الطرفان على اللجوء للتوفيق، ثم اللجوء للتحكيم لحل ما بينهما من نزاع، في حال عدم ارتضاء أحدهما بما انتهى إليه الموفق، حيث يعتبر هذا الاتفاق ملزماً لهيئة التحكيم وللأطراف، ولا يجوز لأي منهما اللجوء للتحكيم مباشرةً قبل استنفاد وسيلة التوفيق، حيث اعتبرت لجوء أحد الأطراف للتحكيم مباشرة قبل اللجوء للتوفيق مع تمسك المحتكم ضده بحقه في ذلك، يوجب على هيئة التحكيم الحكم بعدم اختصاصها بالدعوى التحكيمية، لعدم سلوك الطريق الذي أوجب الاتفاق سلوكه قبل الالتجاء للتحكيم.
ثالثاً: التحكيم والخبرة:
لكي نصل إلى معرفة الفرق بين التحكيم والخبرة يجب أن نعرف المقصود بالخبرة والتي عرفها البعض بأنها: "الإجراء الذي يعهد بمقتضاه القاضي أو المحكم أو الخصوم إلى شخص ما بمهمة إبداء رأيه في بعض المسائل ذات الطابع الفني التي يكون على دراية بها دون إلزام القاضي بهذا الرأي"[8]. ويعرفها الزحيلي بقوله: "يقصد بالخبرة الإخبار من ذوي الاختصاص عن حقيقة الشيء المتنازع فيه"[9]، وعلى ذلك تنحصر الخبرة في إعطاء مجرد رأي فني من قبل الخبير في مسألة معينة قد تكون طبية أو هندسية أو مصرفية أو غيرها من الفنون والعلوم الأخرى، وليس لرأيه قوة إلزامية حيث يبقى للجهة التي طلبت إجراء الخبرة الأخذ به أو إهماله. وتتشارك الخبرة والتحكيم في الاستعانة بشخص من الغير ليست له صلة بالنزاع، ويتفق الخبير مع المحكم في أن كليهما ليس قاضيا منصباً من الإمام[10]، كما يشتركان في ضرورة توافر الحيدة والاستقلال وانتفاء الموانع القانونية في كل من المحكم والخبير، وضرورة مراعاة كل من المحكم والخبير لمبدأ المواجهة بين الخصوم، كما يجوز رد الخبير وأيضا يجوز رد المحكم. وبالرغم من هذا التشابه بين الخبرة والتحكيم إلا أن هناك فروقا جوهرية تجعل كل منهما يتباعد عن الآخر، نوجزها فيما يلي: يتمتع الأطراف في ظل نظام التحكيم بحرية اختيار المحكم الذي يلي مهمة الفصل في النزاع المثار بينهم دون تدخل من القضاء اللهم إلا في حالة عدم اتفاقهم على اختيار المحكم أو على كيفية اختياره، بينما يتم تعيين الخبير بواسطة القاضي العام في الدولة، وحتى في حالة اتفاق الخصوم على اختيار خبير بعينه، فإنه يلزم أن تقر المحكمة اتفاقهم هذا. فوظيفــة الخبير تختلف عن وظيفة المحكم حيث إن الخــبير يقوم بعمل القاضي كإجراءات النظر في الموضوع وســماع الأقوال وإصدار حكم لحسم النزاع، ويكون حكمه ملزما لأطراف الخصومة. أما الخبير فإن وظيفته محصورة بما كلف به من فحص دقيق في جزء محدد من مســألة وإبداء الرأي بناء على معرفته وعلمه، ويكون رأيه غير ملزم للخصوم ولا للمحكم ولا للقاضي[11]. كما أنه لا يجوز التحكيم في المسائل الجنائية وإن كان يجوز اللجوء إليه بالنسبة للحقوق المالية المترتبة عليها، بينما يجوز انتداب خبير في المسائل الجنائية والمدنية والتجارية والإدارية على السواء[12]. بالإضافة إلى ذلك فالخبير لا يصدر قرارت، وإنما هو يبدي رأيا فنيا يظل للأطراف حق قبوله أو المنازعة فيه، والعودة لطلب تقارير خبرة أخرى من خبراء آخرين. أما فيما يخص التحكيم فالحكم يصدر قرارا يحسم النزاع ويلزم الأطراف ويحوز حجية الشيء المقضي به، فالأطراف لا يملكون العودة لطرح النزاع على محكمين آخرين أو رفع دعوى قضائية بشأنه.
رابعاً: التحكيم والوكالة:
كلاهما ينشأ باختيار ورضى الخصمين، إلا أن هناك أوجها من التشــابه والاختلاف، ولكي نصل إلى الفرق بينهما لابد من تعريف الوكالة، فمعنى الوكالة: هــي إنابة جائز التصرف في تصرف معلوم يملكه المنيب مباشرة بنفسه[13]. وتتشابه الوكالة مع التحكيم حيث إن الوكالة تنعقد بين طرفين برضاهما وبإيجاب وقبول منهم، كما في التحكيم. وفي الوكالة يكون الحق الموكل فيه معلوما ومحددا؛ ولا يجوز للموكل أن يتعداه، كما في التحكيم كذلك فلا يجوز للمحكم أن يتصدى لغير موضوع الخلاف المحدد له. "وتختلف الوكالة عن التحكيم في أن الوكيل مقيد بمراعــاة رغبة موكله في تصرفاته بالوكالة، أما في التحكيم فإن المحكم يصدر حكمه دون الخضوع لرغبة أي من الطرفين، إنما بإرادة مستقلة عن الخصوم متبعا قواعد القضاء"[14]. والباعث على الوكالة هو المحافظة على مصلحة المــوكل والدفاع عنها في جميع الأحوال فلا يشترط لصحتها وقوع نزاع، وأما التحكيم فالغرض منه هو إنهاء الخصومة بحكم عادل، لذا فلا يكون التحكيم إلا في حالة وجود نزاع[15]. في الوكالــة يملك الموكل حق عزل موكله في أي وقت شــاء، أما في التحكيم فإن الخصوم لا يستطيعون عزل المحكم بعد شروعه في إجراءات التحكيم، وإن كان لهم عزله قبل ذلك، إلا أن المحكم وبعد شروعه في إجراءات التحكيم تصبح له صفة القاضي في فض النزاع[16]. ويمكن القول: إن الوكالة أعم من التحكيم الذي يقتصر على بعض الخصومات دون بعض، وإن التحكيم يختلف عن الوكالة، والمحكم لا يعتبر وكيلا لأن طبيعة عملهما مختلفة.
[1] الخولي، أكثم، العقود المدنية (الصلح والهبة والوكالة)، (مصر: مطبعة النهضة، ط1، 1957)، ص7 وما بعدها. [2] أنظر. ذكي، محمود جمال الدين، العقود المسماة، (لبنان: دار الكتاب العربي، د.ت)، ص17. [3] العيش، فضيل، الصلح في المنازعات الإدارية وفي القوانين الأخرى، (الجزائر: منشورات بغدادي)، ص56. [4] شفيقة، بن صاولة، الصلح في المادة الإدارية، (الجزائر: دار هومة، ط2، 2008)، ص46. [5] أبو الوفا، التحكيم الاختياري والإجباري، مرجع سابق، ص31، هاشم، محمود محمد، النظرية العامة للتحكيم في المواد المدنية والتجارية، (القاهرة: دار الفكر العربي، 1990)، ج1، ص28. [6] العصار، يسري محمد، التحكيم في المنازعات الإدارية العقدية وغير العقدية، (بيروت: دار النهضة العربية، 2001)، ص44. [7] راجع : G. Pluyette, Principes et applications récentes des décrets des 22 juillet et 13 décembre 1996 sur la conciliation et la médiation judiciaires, Rev.arb. 1997., p.505., spéc, p.506. [8] عطية، عزمي عبدالفتاح، قانون التحكيم الكويتي، دراسة لقواعد التحكيم الداخلي في قانون المرافعات الكويتي، (الكويت: مؤسسة دار الكتب، ط2 ،2012م)، ص14 وما بعدها. [9] الزحيلي، محمد مصطفى، وسائل الإثبات في الشريعة الإسلامية، (دمشق: دار البيان، ط10، 1402)، ص594. [10] ينظر:السيد، محمد، التحكيم والصلح وتطبيقاتهــا في المجال الجنائي، (الرياض- المملكة العربية السعودية:جامعة نايف العربيـة للعلوم الأمنية، ط1، 1427)، ص35. [11] ابن فرحون، إبراهيم بن علي بن محمد، تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومنهاج الحكام، (المملكة العربية السعودية- الرياض: دار عالم الكتب، د. ط، 1423)، ج2، ص81. [12] انظر: A. Lorieux, L'expertise et le jugement, in thèmes et commentaires sur l'expert- -ise, op.cit., p.123., spéc, p.126. [13] السرخسي، محمد بن أحمد بن أبي ســله شمس الأئمة، المبسوط، (بيروت: دار المعرفة، د.ط، 1414هـ)، ج19، ص2. [14] الكاساني، علاء الدين أبو بكر، بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، (بيروت: دار الكتاب العربي، ط1، 1402هـ)، ج6، ص27. [15] القرافي، شهاب الدين أمحد بن إدريس الصنهاجي، أنوار البروق في أنواء الفروق، (بيروت: عالم الكتب، د.ط، د. ت)، ج2، ص202. [16] ابن فرحون، تبصرة الحكام، مرجع سابق، ج1، ص63.