كثيراً ما يتذمر المتقاضون من بُعد مواعيد جلسات فصل القضاء، ومن بطء الإجراءات القضائية الروتينية، وما يترتب على ذلك من تأخر وضياع الحقوق على أهلها، خاصة في المجال التجاري والذي يتطلب السرعة في الفصل، لذلك اقتضت المصلحة العامة، وجود نظام أو قضاء مواز أو بديل يحقق المرونة والسرية والسرعة في النظر في القضايا والفصل فها. ومن هنا برزت أهمية دور التحكيم كوسيلة من وسائل الفصل في المنازعات خاصة التجارية منها، لقيامه بدور مهم ورئيسي في تسوية المنازعات، وذلك لما تتمتع به هذه الوسيلة من مزايا تستند في أساسها إلى مبدأ سلطان الإرادة. وقد اعترف فقهاء الشريعة الإسلامية بمبدأ اللجوء إلى التحكيم وأجازوه في الحقوق التي يملك الأفراد حق التصرف فيها وهي في الغالب الحقوق التي لا تتعلق بحدود الله لأن التحكيم ضرب من التفويض ولا يصح إلا بما يملك المفوض فيه بنفسه، إذ قال سبحانه وتعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا)[2] وورد في الصحاح أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل تحكيم سعد بن معاذ فيما بين المسلمين وبين بني قريضة، وأنه أنفذ حكم سعد، وقال له :(لقد حكمت فيهم بحكم الملك)[3]. وقد حظي التحكيم في الحقبة الماضية بأهمية كبيرة تجسدت في الاتفاقيات الدولية، والتي من أهمها اتفاقية نيويورك[4] بشأن الاعتراف وتنفيذ قرارات التحكيم الأجنبية في سنة 1958م والتي وقعت عليها بعض الدول العربية، والاتفاقية الأوروبية الموقعة في جنيف سنة 1961م بخصوص التحكيم التجاري الدولي. ومع زيادة انتشار نظام التحكيم كأسلوب من أساليب فض المنازعات بالطرق السلمية، ظهرت الحاجة إلى توحيد قواعده الإجرائية والموضوعية، حتى لا يكون هناك تضارب بين الأحكام، ومن هنا ظهرت محاولات الأمم المتحدة لتوحيد هذه القواعد فصدر منها ما يعرف بقواعد "اليونسترال"[5]((UNCITRAL انبثق من ذلك ظهور ما يسمى بالهيئات أو المراكز الدولية للتحكيم، والتي أكدت على هذه القواعد الدولية وسعت إلى تطبيقها. وقد انتشرت هذه الهيئات في بعض الدول العربية والاسلامية. وانطلاقا مما تقدم جاء الاهتمام بالتحكيم وتطوير آلياته في المملكة العربية السعودية، ليصبح مواكباً لتطور المجتمع المحلي والدولي. فكانت بدايات العمل بالتحكيم في المملكة العربية السعودية منذ أوائل القرن العشرين، وخاصة بعد زيادة النشاط التجاري في المملكة، ابتداء بنظام المحكمة التجارية عام 1350هـ والذي احتوى على بعض المواد التي تنظم العملية التحكيمية، ثم صدر نظام الغرفة التجارية الصناعية عام 1365هـ والذي أعطى التجار الحق في الاتفاق على تكليف الغرفة التجارية الصناعية لتكون حكماً في فض ما قد يقع بينهم من نزاعات، وبذلك وضع هذا النظام أول تنظيم للتحكيم المؤسسي في المملكة العربية السعودية عقبه نظام العمل والعمال عام 1389هـ والذي أجاز لأصحاب العمل والعمال إحالة ما ينشأ بينهم من نزاعات إلى التحكيم، بدلاً من حلها عن طريق اللجنة الابتدائية لتسوية الخلافات العمالية المختصة، بعد ذلك جاء نظام الغرف التجارية الصناعية عام1400هـ. وفي عام 1403 هـ صدر أول نظام للتحكيم السعودي لكن كان يعتريه بعض النقص والقصور ولم يكن مواكبا للتحكيم الدولي، ولتلافي ذلك القصور صدر نظام التحكيم الجديد في عام 1433هـ[6]. وعلى الرغم من المزايا الكبيرة التي يتسم بها التحكيم، وعلى الرغم من أهميته، إلا أن التحكيم لم يسلم من النقد، فالمحكمون في الغالب يفتقدون إلى القدرة والخبرة التي يتمتع بها القضاة من خلال تمرسهم بامتهان القضاء ودراسة الشريعة والقانون.
[1] سورة النساء الآية 35. [2] سورة النساء الآية 58. [3] جمعه: عبدالباقي. محمد فؤاد، اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان، (الكويت،1977،1397هـ) ص 451، حديث رقم 1155. [4] اتفاقية الاعتراف بقرارات التحكيم الأجنبية والتي أطلق عليها اتفاقية نيويورك المعتمدة من قبل المؤتمر الدبلوماسي للأمم المتحدة في 10 يونيو 1958 ودخلت حيز النفاذ في 7 يونيو 1959 [5] أنشأت الجمعية العامة لجنة الأمم المتحدة للقانون التجاري الدولي (الأونسيترال) في عام 1966 ( القرار 2205 (د-21) المؤرخ 17 كانون الأول/ديسمبر 1966). ولدى إنشاء اللجنة، سلّمت الجمعية العامة بأن التفاوتات في القوانين الوطنية التي تنظّم التجارة الدولية تضع عوائق أمام تدفق التجارة، واعتبرت أن اللجنة هي الوسيلة التي تستطيع بها الأمم المتحدة القيام بدور أنشط في تقليل هذه العوائق وإزالتها. [6] نظام التحكيم السعودي الصادر بالمرسوم الملكي رقم (م/34) وتاريخ 24/5/1433هـ.